الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَرْسَلَنَا إِلَى وَلَدِ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا، فَلَمَّا أَتَاهُمْ قَالَ: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، يَقُولُ: أَطِيعُوهُ، وَتَذَلَّلُوا لَهُ بِالطَّاعَةِ لِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، يَقُولُ: مَا لَكَمَ مِنْ مَعْبُودٍ سِوَاهُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْكُمُ الْعِبَادَةَ غَيْرُهُ {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ}، يَقُولُ: وَلَا تَنْقُصُوا النَّاسَ حُقُوقَهُمْ فِي مِكْيَالِكُمْ وَمِيزَانِكُمْ {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ}. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي "الْخَيْرِ" الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ شُعَيْبٍ أَنَّهُ قَالَ لِمَدْيَنَ إِنَّهُ يَرَاهُمْ بِهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ ذَلِكَ رُخْصُ السِّعْرِ وَحَذَّرَهُمْ غَلَاءَهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ الْوَاسِطِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى، عَنْ الذَّيَّالِِِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ}، قَالَ: رُخْصُ السِّعْرِ {وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ}، قَالَ: غَلَاءُ سِعْرٍ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَصْرِيُّ قَالَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ قَالَ، حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ رُسْتُمٍ، عَنِ الْحَسَنِ، وَذَكَرَ قَوْمَ شُعَيْبٍ قَالَ: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ}، قَالَ: رُخْصُ السِّعْرِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْخَرَّازُ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} قَالَ: الْغِنَى وَرُخْصُ السِّعْرِ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنِّي بِذَلِكَ: إِنِّي أَرَى لَكُمْ مَالًا وَزِينَةً مِنْ زَيْنِ الدُّنْيَا. ذِكْرُ مِنْ قَالَ ذَلِكَ:- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ}، قَالَ: يَعْنِي خَيْرَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ}، أَبْصَرَ عَلَيْهِمْ قِشْرًا مِنْ قِشْرِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ}، قَالَ: فِي دُنْيَاكُمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا}، سَمَّاهُ " خَيْرًا" لِأَنَّ النَّاسَ يُسَمُّونَ الْمَالَ "خَيْرً ". قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ شُعَيْبٍ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ}، يَعْنِي بِخَيْرِ الدُّنْيَا. وَقَدْ يَدْخُلُ فِي خَيْرِ الدُّنْيَا، الْمَالُ وَزِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَرُخْصُ السِّعْرِ وَلَا دَلَالَةَ عَلَى أَنَّهُ عُنِيَ بِقَيْلِهِ ذَلِكَ بَعْضُ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا دُونَ بَعْضٍ، فَذَلِكَ عَلَى كُلِّ مَعَانِي خَيْرَاتِ الدُّنْيَا الَّتِي ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ كَانُوا أُوتُوهَا. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ شُعَيْبٌ، لِأَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا فِي سِعَةٍ مِنْ عَيْشِهِمْ وَرُخْصٍ مِنْ أَسْعَارِهِمْ، كَثِيرَةٌ أَمْوَالُهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: لَا تَنْقُصُوا النَّاسَ حُقُوقَهُمْ فِي مَكَايِيلِكُمْ وَمَوَازِينِكُمْ، فَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ رِزْقَكُمْ، {وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ}، بِمُخَالَفَتِكُمْ أَمْرَ اللَّهِ، وَبَخْسِكُمُ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ فِي مَكَايِيلِكُمْ وَمَوَازِينِكُمْ {عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ}، يَقُولُ: أَنْ يَنْزِلَ بِكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ مُحِيطٍ بِكُمْ عَذَابُهُ. فَجَعَلَ "الْمُحِيطَ" نَعْتًا لِلْيَوْمِ، وَهُوَ مِنْ نَعْتِ "الْعَذَابِ"، إِذْ كَانَ مَفْهُومًا مَعْنَاهُ، وَكَانَ الْعَذَابُ فِي الْيَوْمِ، فَصَارَ كَقَوْلِهِمْ: "بَعْضُ جُبَّتِكَ مُحْتَرِقَةٌ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، مُخْبِرًا عَنْ قَيْلِ شُعَيْبٍ لِقَوْمِهِ: أَوْفَوْا النَّاسَ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ "بِالْقِسْطِ"، يَقُولُ: بِالْعَدْلِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تُوَفُّوا أَهْلَ الْحُقُوقِ الَّتِي هِيَ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ حُقُوقَهُمْ، عَلَى مَا وَجَبَ لَهُمْ مِنَ التَّمَامِ، بِغَيْرِ بَخْسٍ وَلَا نَقْصٍ. وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}، يَقُولُ: وَلَا تُنْقِصُوا النَّاسَ حُقُوقَهُمُ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُوَفُّوهُمْ كَيْلَا أَوْ وَزْنًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، كَمَا:- حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ صَالِحِ بْنُ حَيٍّ قَالَ: بَلَغَنِي فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} قَالَ،: لَا تُنْقِصُوهُمْ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}، يَقُولُ: لَا تَظْلِمُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ. وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، يَقُولُ: وَلَا تَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ تَعْمَلُونَ فِيهَا بِمَعَاصِي اللَّهِ، كَمَا:- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، قَالَ: لَا تَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ. وَحُدِّثْتُ عَنْ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، يَقُولُ: لَا تَسْعَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ يَعْنِي: نُقْصَانَ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ}، مَا أَبْقَاهُ اللَّهُ لَكُمْ، بَعْدَ أَنْ تُوَفُّوا النَّاسَ حُقُوقَهُمْ بِالْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ بِالْقِسْطِ، فَأَحَلَّهُ لَكُمْ، خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الَّذِي يَبْقَى لَكُمْ بِبَخْسِكُمُ النَّاسَ مِنْ حُقُوقِهِمْ بِالْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِينَ بِوَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ، وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ. وَهَذَا قَوْلٌ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ غَيْرِ مُرْتَضٍي عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ: طَاعَةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ}، قَالَ: طَاعَةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {بَقِيَّةُ اللَّهِ} قَالَ: طَاعَةُ اللَّهِ {خَيْرٌ لَكُمْ}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {بَقِيَّةُ اللَّهِ}، قَالَ: طَاعَةُ اللَّهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ}، قَالَ: طَاعَةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ}، قَالَ: طَاعَةُ اللَّهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: حَظُّكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:- حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، حَظُّكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ}، قَالَ: حَظُّكُمْ مِنَ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: رِزْقُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {بَقِيَّةُ اللَّهِ} قَالَ رِزْقُ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ مَا:- حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، قَالَ: "الْهَلَاكُ "، فِي الْعَذَابِ، وَ "البَقِيَّةُ" فِي الرَّحْمَةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا اخْتَرْتُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَرْتُهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِنَّمَا تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ بِالنَّهْيِ عَنْ بَخْسِ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَإِلَى تَرْكِ التَّطْفِيفِ فِي الْكَيْلِ وَالْبَخْسِ فِي الْمِيزَانِ دَعَاهُمْ شُعَيْبٌ، فَتَعْقِيبُ ذَلِكَ بِالْخَبَرِ عَمَّا لَهُمْ مِنَ الْحَظِّ فِي الْوَفَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أُولَى مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: (بَقِيَّةُ)، إِنَّمَا هِيَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ "بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ كَذَا"، فَلَا وَجْهَ لِتَوْجِيهِ مَعْنَى ذَلِكَ إِلَّا إِلَى: بَقِيَّةُ اللَّهِ الَّتِي أَبْقَاهَا لَكُمْ مِمَّا لَكَمَ بَعْدَ وَفَائِكُمُ النَّاسَ حُقُوقَهُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَقِيَّتِكُمْ مِنَ الْحَرَامِ الَّذِي يَبْقَى لَكُمْ مِنْ ظُلْمِكُمُ النَّاسَ بِبَخْسِهِمْ إِيَّاهُمْ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}، يَقُولُ: وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، بِرَقِيبٍ أَرْقُبُكُمْ عِنْدَ كَيْلِكُمْ وَوَزْنِكُمْ، هَلْ تُوَفُّونَ النَّاسَ حُقُوقَهُمْ أَمْ تَظْلِمُونَهُمْ؟ وَإِنَّمَا عَلَيَّ أَنَّ أُبَلِّغَكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي، فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمُوهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ قَوْمُ شُعَيْبٍ: يَا شُعَيْبُ، أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ عِبَادَةَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}، مِنْ كَسْرِ الدَّرَاهِمِ وَقَطْعِهَا، وَبَخْسِ النَّاسِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ}، وَهُوَ الَّذِي لَا يَحْمِلُهُ الْغَضَبُ أَنْ يَفْعَلَ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفْعَلَهُ فِي حَالِ الرِّضَى، (الرَّشِيدُ)، يَعْنِي: رَشِيدُ الْأَمْرِ فِي أَمْرِهِ إِيَّاهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، كَمَا:- حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خِدَاشٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ خَالِدٍ الْخَيَّاطُ قَالَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} قَالَ: كَانَ مِمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ حَذْفُ الدَّرَاهِمِ أَوْ قَالَ: قَطْعُ الدَّرَاهِمِ، الشَّكُّ مِنْ حَمَّادٍ. حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنْ أَبِي مَوْدُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ يَقُولُ: بَلَغَنِي أَنَّ قَوْمَ شُعَيْبٍ عُذِّبُوا فِي قَطْعِ الدَّرَاهِمِ، وَجَدْتُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: عُذِّبَ قَوْمُ شُعَيْبٍ فِي قَطْعِهِمُ الدَّرَاهِمَ فَقَالُوا: {يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}. قَالَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ خَالِدٍ الْخَيَّاطُ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}، قَالَ: كَانَ مِمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ حَذْفُ الدَّرَاهِمِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}، قَالَ: نَهَاهُمْ عَنْ قَطْعِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ فَقَالُوا: إِنَّمَا هِيَ أَمْوَالُنَا نَفْعَلُ فِيهَا مَا نَشَاءُ، إِنْ شِئْنَا قَطَعْنَاهَا، وَإِنْ شِئْنَا حَرَّقْنَاهَا، وَإِنْ شِئْنَا طَرَحْنَاهَا ! قَالَ وَأَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، وَأَخْبَرَنِي دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ الْمَرِّيُّ: أَنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}، قَالَ زَيْدٌ: كَانَ مِنْ ذَلِكَ قَطْعُ الدَّرَاهِمِ. وَقَوْلُهُ: {أَصَلَاتُكَ}، كَانَ الْأَعْمَشُ يَقُولُ فِي تَأْوِيلِهَا مَا:- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ الْأَعْمَشِ فِي قَوْلِهِ: {أَصَلَاتُكَ} قَالَ: قِرَاءَتُكَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قَيْلُ: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}، وَإِنَّمَا كَانَ شُعَيْبٌ نَهَاهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا فِي أَمْوَالِهِمْ مَا قَدْ ذَكَرْتُ أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْهُ فِيهَا؟ قِيلَ: إِنَّ مَعْنًى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا تَوَهَّمْتُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، أَوْ أَنْ نَتْرُكَ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ: تَأْمُرُكَ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذَا أَمَرَهُمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ نَحْوَ هَذَا الْقَوْلِ قَالَ. وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ يَجْعَلُ الْأَمْرَ كَالنَّهْيِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ بِذَا، وَتَنْهَانَا عَنْ ذَا؟ فَهِيَ حِينَئِذٍ مَرْدُودَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى مَنْصُوبَةٌ بِقَوْلِهِ "تَأْمُرُكَ "، وَأَنَّ الثَّانِيَةَ مَنْصُوبَةٌ عَطْفًا بِهَا عَلَى "مَا" الَّتِي فِي قَوْلِهِ: (مَا يَعْبُدُ). وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ: أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، أَوْ أَنْ نَتْرُكَ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ أَنَّهُ قَرَأَهُ (مَا تَشَاءُ). قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَمَنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَا مَؤُونَةَ فِيهِ، وَكَانَتْ "أَنَّ" الثَّانِيَةَ حِينَئِذٍ مَعْطُوفَةٌ عَلَى "أَنْ" الْأُولَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ لِشُعَيْبٍ: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ، قَالُوا ذَلِكَ لَهُ اسْتِهْزَاءً بِهِ، وَإِنَّمَا سَفَّهُوهُ وَجَهَّلُوهُ بِهَذَا الْكَلَامِ. وَبِمَا قُلْنَا مِنْ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:- حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}، قَالَ: يَسْتَهْزِئُونَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِيقَوْلِهِ: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}، الْمُسْتَهْزِئُونَ، يَسْتَهْزِئُونَ: بِأَنَّكَ لَأَنَّتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ!
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ شُعَيْبٌ لِقَوْمِهِ: يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيَانٍ وَبُرْهَانٍ مِنْ رَبِّي فِيمَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، وَفِيمَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ إِفْسَادِ الْمَالِ {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا}، يَعْنِي حَلَالًا طَيِّبًا. {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}، يَقُولُ: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَنْهَاكُمْ عَنْ أَمْرٍ ثُمَّ أَفْعَلُ خِلَافَهُ، بَلْ لَا أَفْعَلُ إِلَّا مَا آمُرُكُمْ بِهِ، وَلَا أَنْتَهِي إِلَّا عَمَّا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ. كَمَا:- حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}، يَقُولُ: لَمْ أَكُنْ لِأَنْهَاكُمْ عَنْ أَمْرٍ أَرْكَبَهُ أَوْ آتِيَهُ. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ}، يَقُولُ: مَا أُرِيدُ فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْهُ، إِلَّا إِصْلَاحَكُمْ وَإِصْلَاحَ أَمْرِكُمْ {مَا اسْتَطَعْتُ}، يَقُولُ: مَا قَدَرْتُ عَلَى إِصْلَاحِهِ، لِئَلَّا يَنَالَكُمْ مِنَ اللَّهِ عُقُوبَةٌ مُنَكِّلَةٌ، بِخِلَافِكُمْ أَمْرَهُ، وَمَعْصِيَتِكُمْ رَسُولَهُ {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} يَقُولُ: وَمَا إِصَابَتِي الْحَقَّ فِي مُحَاوَلَتِي إِصْلَاحَكُمْ وَإِصْلَاحَ أَمْرِكُمْ إِلَّا بِاللَّهِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمُعِينُ عَلَى ذَلِكَ، إِلَّا يُعِنِّي عَلَيْهِ لَمْ أُصِبِ الْحَقَّ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}، يَقُولُ: إِلَى اللَّهِ أُفَوِّضُ أَمْرِي، فَإِنَّهُ ثِقَتِي، وَعَلَيْهِ اعْتِمَادِي فِي أُمُورِي. وَقَوْلُهُ: {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}، وَإِلَيْهِ أُقْبِلُ بِالطَّاعَةِ، وَأَرْجِعُ بِالتَّوْبَةِ، كَمَا:- حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}، قَالَ: أَرْجِعُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}، قَالَ: أَرْجِعُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍقَوْلُهُ: {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}، قَالَ: أَرْجِعُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ َقَيْلِ شُعَيْبٍ لِقَوْمِهِ: {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي}، يَقُولُ: لَا يَحْمِلْنَكُمْ عَدَاوَتِي وَبُغْضِي، وَفِرَاقُ الدِّينِ الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ، عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَبِخَسِ النَّاسِ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَتَرْكِ الْإِنَابَةِ وَالتَّوْبَةِ، فَيُصِيبُكُمْ {مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ}، مِنَ الْغَرَقِ {أَوْ قَوْمَ هُودٍ}، مِنَ الْعَذَابِ {أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ}، مِنَ الرَّجْفَةِ {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ} الَّذِينَ ائْتَفَكَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ {مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ}، هَلَاكُهُمْ، أَفَلَا تَتَّعِظُونَ بِهِ، وَتَعْتَبِرُونَ؟ يَقُولُ: فَاعْتَبِرُوا بِهَؤُلَاءِ، وَاحْذَرُوا أَنْ يُصِيبَكُمْ بِشِقَاقِي مِثْلُ الَّذِي أَصَابَهُمْ. كَمَا:- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي}، يَقُولُ: لَا يَحْمِلْنَكُمْ فِرَاقِي، {أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ} الْآيَةَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي}، يَقُولُ: لَا يَحْمِلْنَكُمْ شِقَاقِي. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ: {لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي}، قَالَ: عَدَاوَتِي وَبَغَضَائِي وَفِرَاقِي. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ}، قَالَ: إِنَّمَا كَانُوا حَدِيثًا مِنْهُمْ قَرِيبًا يَعْنِي قَوْمَ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَصَالِحٍ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ}، قَالَ: إِنَّمَا كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ قَرِيبٍ، بَعْدَ نُوحٍ وَثَمُودَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ: وَمَا دَارُ قَوْمِ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، مُخْبِرًا عَنْ قَيْلِ شُعَيْبٍ لِقَوْمِهِ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ}، أَيُّهَا الْقَوْمُ مِنْ ذُنُوبِكُمْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا مُقِيمُونَ، مِنْ عِبَادَةِ الْآلِهَةِ وَالْأَصْنَامِ، وَبَخْسِ النَّاسِ حُقُوقَهُمْ فِي الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}، يَقُولُ: ثُمَّ ارْجِعُوا إِلَى طَاعَتِهِ وَالِانْتِهَاءِ إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ}، يَقُولُ: هُوَ رَحِيمٌ بِمَنْ تَابَ وَأَنَابَ إِلَيْهِ أَنْ يُعَذِّبَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ. (وَدُودٌ)، يَقُولُ: ذُو مَحَبَّةِ لِمَنْ أَنَابَ وَتَابَ إِلَيْهِ، يَوَدُّهُ وَيُحِبُّهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ قَوْمُ شُعَيْبٍ لِشُعَيْبٍ: {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ}، أَيْ: مَا نَعْلَمُ حَقِيقَةُ كَثِيرٍ مِمَّا تَقُولُ وَتُخْبِرُنَا بِهِ {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا}. ذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ ضَرِيرًا، فَلِذَلِكَ قَالُوا لَهُ: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا}.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ وَاصِلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ زَيْدٍ الْجَصَّاصُ قَالَ، أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا}، قَالَ: كَانَ أَعْمَى. حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْدِيٍّ الْمِصِّيصِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَعِيدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْوَلِيدِ الرَّمْلِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ زِيَادٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ الْمُنْذِرِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ زَيْدٍ قَالُوا، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدٍ، مِثْلَهُ. قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَاحِ قَالَا سَمِعْنَا شَرِيكًا يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا}، قَالَ: أَعْمَى. حَدَّثَنَا سَعْدَوَيْهِ قَالَ، حَدَّثَنَا عِبَادٌ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَوْلُهُ: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا}، قَالَ: كَانَ ضَعِيفَ الْبَصَرِ قَالَ سُفْيَانُ: وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: "خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحِمَّانِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبَّادٌ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدٍ: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا}، قَالَ: كَانَ ضَرِيرَ الْبَصَرِ. وَقَوْلُهُ: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ}، يَقُولُ: يَقُولُونَ: وَلَوْلَا أَنَّكَ فِي عَشِيرَتِكَ وَقَوْمِكَ {لَرَجَمْنَاكَ}، يَعْنُونَ: لَسَبَبْنَاكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ لَقَتَلْنَاكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ}، قَالَ: قَالُوا: لَوْلَا أَنْ نَتَّقِيَ قَوْمَكَ وَرَهْطَكَ لَرَجَمْنَاكَ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}، يُعَنْوِنُ: مَا أَنْتَ مِمَّنْ يُكَرَّمُ عَلَيْنَا، فَيَعْظُمُ عَلَيْنَا إِذْلَالَهُ وَهَوَانَهُ، بَلْ ذَلِكَ عَلَيْنَا هَيِّنٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّاإِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ شُعَيْبٌ لِقَوْمِهِ: يَا قَوْمِ، أَعَزَّزْتُمْ قَوْمَكُمْ، فَكَانُوا أَعَزَّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ، وَاسْتَخْفَفْتُمْ بِرَبِّكُمْ، فَجَعَلْتُمُوهُ خَلْفَ ظُهُورِكُمْ، لَا تَأْتَمِرُونَ لِأَمْرِهِ وَلَا تَخَافُونَ عِقَابَهُ، وَلَا تُعَظِّمُونَهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ؟ يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا لَمْ يَقْضِ حَاجَةَ الرَّجُلِ: "نَبَذَ حَاجَتَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ"، أَيْ: تَرَكَهَا لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا. وَإِذَا قَضَاهَا قِيلَ: "جَعَلَهَا أَمَامَهُ، وَنُصْبَ عَيْنَيْهِ "، وَيُقَالُ: "ظَهَّرْتُ بِحَاجَتِي " وَ"جَعَلْتَهَا ظِهْرِيَّةً"، أَيْ: خَلْفَ ظَهْرِكَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَجَدْنَا بَنِي الْبَرْصَاءِ مِنْ وَلَدِ الظَّهْرِ *** بِمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَظْهَرُونَ بِحَوَائِجِ النَّاسِ فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْمَ شُعَيْبٍ وَرَهْطَهُ كَانُوا أَعَزَّ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ، وَصَغُرَ شَأْنُ اللَّهِ عِنْدَهُمْ، عَزَّ رَبُّنَا وَجَلَّ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}، قَالَ: قَفًا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}، يَقُولُ: عَزَّزْتُمْ قَوْمَكُمْ، وَأَظْهَرْتُمْ بِرَبِّكُمْ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}، قَالَ: لَمْ تُرَاقِبُوهُ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا تُرَاقِبُونَ قَوْمِي {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}، يَقُولُ: عَزَّزْتُمْ قَوْمَكُمْ وَأَظْهَرْتُمْ بِرَبِّكُمْ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}، قَالَ: لَمْ تُرَاقِبُوهُ فِي شَيْءٍ، إِنَّمَا تُرَاقِبُونَ قَوْمِي {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}، لَا تَخَافُونَهُ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ}، قَالَ: أَعْزَزْتُمْ قَوْمَكُمْ، وَاغْتَرَرْتُمْ بِرَبِّكُمْ، سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ أَبِي إِسْرَائِيلَ قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: "خَلَّفْتَ حَاجَتِي خَلْفَ ظَهْرِكَ"، {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}، اسْتَخْفَفْتُمْ بِأَمْرِهِ. فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ قَضَاءَ حَاجَةِ صَاحِبِهِ جَعَلَهَا أَمَامَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَمْ يَسْتَخِفَّ بِهَا. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}، قَالَ: "الظِّهْرِيُّ"، الْفَضْلُ، مِثْلَ الْجَمَّالِ يَخْرُجُ مَعَهُ بِإِبِلٍ ظَهَارِيَّةٍ، فَضَّلَ، لَا يَحْمِلُ عَلَيْهَا شَيْئًا، إِلَّا أَنْ يَحْتَاجَ إِلَيْهَا. قَالَ: فَيَقُولُ: إِنَّمَا رَبُّكُمْ عِنْدَكُمْ مِثْلَ هَذَا، إِنِ احْتَجْتُمْ إِلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ تَحْتَاجُوا إِلَيْهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَاتَّخَذْتُمْ مَا جَاءَ بِهِ شُعَيْبٌ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا فَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: (وَاتَّخَذْتُمُوهُ)، عَلَى هَذَا مِنْ ذِكْرِ مَا جَاءَ بِهِ شُعَيْبٌ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}، قَالَ: تَرَكْتُمْ مَا جَاءَ بِهِ شُعَيْبٌ قَالَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: نَبَذُوا أَمْرَهُ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}، قَالَ: نَبَذْتُمْ أَمْرَهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}، قَالَ: هُمْ رَهْطُ شُعَيْبٍ بِتَرْكِهِمْ مَا جَاءَ بِهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ظِهْرِيًّا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}، قَالَ: اسْتِثْنَاؤُهُمْ رَهْطُ شُعَيْبٍ، وَتَرْكِهِمْ مَا جَاءَ بِهِ شُعَيْبٌ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ظِهْرِيًّا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الْقَوْلَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، لِقُرْبِ قَوْلِهِ: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}، مِنْ قَوْلِهِ: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} فَكَانَتِ الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: (وَاتَّخَذْتُمُوهُ)، بِأَنْ تَكُونَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، لِقُرْبِ جِوَارِهَا مِنْهُ، أَشْبَهَ وَأَوْلَى. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}، يَقُولُ: إِنْ رَبِّي مُحِيطٌ عِلْمُهُ بِعَمَلِكُمْ، فَلَا يُخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَى جَمِيعِهِ عَاجِلًا وَآجِلًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، مُخْبِرًا عَنْ قَيْلِ شُعَيْبٍ لِقَوْمِهِ: {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ}، يَقُولُ: عَلَى تَمَكُّنِكُمْ. يُقَالُ مِنْهُ: "الرَّجُلُ يَعْمَلُ عَلَى مَكِينَتِهِ، وَمَكِنَتِهِ"، أَيْ: عَلَى اتِّئَادِهِ، "وَمَكُنَ الرَّجُلُ يَمْكُنُ مَكْنًا وَمَكَانَةً وَمَكَانًا". وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ يَقُولُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {عَلَى مَكَانَتِكُمْ}، عَلَى مَنَازِلِكُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا: وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى تَمَكُّنِكُمْ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي تَعْمَلُونَهُ، إِنِّي عَامِلٌ عَلَى تُؤَدَةٍ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي أَعْمَلُهُ {سَوْفَ تَعْلَمُونَ}، أَيُّنَا الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ، وَالْمُخْطِئُ عَلَيْهَا، وَالْمُصِيبُ فِي فِعْلِهِ الْمُحْسِنُ إِلَى نَفْسِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، مُخْبِرًا عَنْ قَيْلِ نَبِيِّهِ شُعَيْبٍ لِقَوْمِهِ: الَّذِي يَأْتِيهِ مِنَّا وَمِنْكُمْ، أَيُّهَا الْقَوْمُ {عَذَابٌ يُخْزِيهِ}، يَقُولُ: يُذِلُّهُ وَيُهِينُهُ {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ}، يَقُولُ: وَيُخْزِي أَيْضًا الَّذِي هُوَ كَاذِبٌ فِي قَيْلِهِ وَخَبَرِهِ مِنَّا وَمِنْكُمْ (وَارْتَقِبُوا)، أَيْ: انْتَظِرُوا وَتَفَقَّدُوا مِنَ الرِّقْبَةِ. يُقَالُ مِنْهُ: "رَقَبْتُ فُلَانًا أَرْقُبُهُ رِقْبَةً". وَقَوْلُهُ: {إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ}، يَقُولُ: إِنِّي أَيْضًا ذُو رِقْبَةٍ لِذَلِكَ الْعَذَابِ مَعَكُمْ، وَنَاظِرٌ إِلَيْهِ بِمَنْ هُوَ نَازِلٌ مِنَّا وَمِنْكُمْ؟
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّاوَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَمَّا جَاءَ قَضَاؤُنَا فِي قَوْمِ شُعَيْبٍ، بِعَذَابِنَا "نَجَّيْنَا شُعَيْبًا " رَسُولَنَا، وَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ فَصَدَّقُوهُ عَلَى مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ مَعَ شُعَيْبٍ، مِنْ عَذَابِنَا الَّذِي بَعَثْنَا عَلَى قَوْمِهِ {بِرَحْمَةٍ مِنَّا}، لَهُ وَلِمَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ عَلَى مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ أَخْمَدَتْهُمْ، فَأَهْلَكَتْهُمْ بِكُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، صَاحَ بِهِمْ صَيْحَةً أَخْرَجَتْ أَرْوَاحَهُمْ مِنْ أَجْسَامِهِمْ {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}، عَلَى رَكْبِهِمْ، وَصَرْعَى بِأَفْنِيَتِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَأَنْ لَمْ يَعِشْ قَوْمُ شُعَيْبٍ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِعَذَابِهِ، حِينَ أَصْبَحُوا جَاثِمِينَ فِي دِيَارِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ. وَلَمْ يَغْنَوْا. مِنْ قَوْلِهِمْ: "غَنَيْتُ بِمَكَانِ كَذَا"، إِذَا أَقَمْتُ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: غَنِيَتْ بِذَلِكَ إِذْ هُمُ لِي جِيرَةٌ *** مِنْهَا بِعَطْفِ رِسَالِةٍ وَتَوَدُّدِ وَكَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}، قَالَ يَقُولُ: كَأَنْ لَمْ يَعِيشُوا فِيهَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَقَوْلُهُ: {أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ}، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَلَا أَبْعَدَ اللَّهُ مَدْيَنَ مِنْ رَحْمَتِهِ، بِإِحْلَالِ نِقْمَتِهِ بِهِمْ "كَمَا بَعُدَتْ ثَمُودُ"، يَقُولُ: "كَمَا بَعُدَتْ مَنْ قَبِلِهِمْ ثَمُودُ مِنْ رَحْمَتِهِ، بِإِنْزَالِ سَخَطِهِ بِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِأَدِلَّتِنَا عَلَى تَوْحِيدِنَا، وَحُجَّةٍ تُبَيِّنُ لِمَنْ عَايَنَهَا وَتَأَمَّلَهَا بِقَلْبٍ صَحِيحٍ. أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَكَذِبِ كُلِّ مَنِ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ دُونَهُ، وَبُطُولِ قَوْلِ مَنْ أَشْرَكَ مَعَهُ فِي الْأُلُوهِيَّةِ غَيْرَهُ {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ}، يَعْنِي إِلَى أَشْرَافِ جُنْدِهِ وَتُبَّاعِهِ {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ}، يَقُولُ: فَكَذَّبَ فِرْعَوْنُ وَمَلَأُهُ مُوسَى، وَجَحَدُوا وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَأَبَوْا قَبُولَ مَا أَتَاهُمْ بِهِ مُوسَى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَاتَّبَعَ مَلَأُ فِرْعَوْنَ أَمْرَ فِرْعَوْنَ دُونَ أَمْرِ اللَّهِ، وَأَطَاعُوهُ فِي تَكْذِيبِ مُوسَى، وَرَدِّ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} يَعْنِي: أَنَّهُ لَا يُرْشَدُ أَمْرُ فِرْعَوْنَ مَنْ قَبِلَهُ مِنْهُ، فِي تَكْذِيبِ مُوسَى، إِلَى خَيْرٍ، وَلَا يَهْدِيهِ إِلَى صَلَاحٍ، بَلْ يُورِدُهُ نَارَ جَهَنَّمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (يَقْدُمُ)، فِرْعَوْنُ {قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، يَقُودُهُمْ، فَيَمْضِي بِهِمْ إِلَى النَّارِ، حَتَّى يُورِدَهُمُوهَا، وَيُصْلِيهِمْ سَعِيرَهَا، {وَبِئْسَ الْوِرْدُ}، يَقُولُ: وَبِئْسَ الْوِرْدُ الَّذِي يَرِدُونَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، قَالَ: فِرْعَوْنُ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَمْضِى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى يَهْجُمَ بِهِمْ عَلَى النَّارِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يَقُولُ: يَقُودُ قَوْمَهُ "فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ". حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، يَقُولُ: أَضَلَّهُمْ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَمَّنْ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ}، قَالَ: "الْوِرْدُ"، الدُّخُولُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ}، كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: "الْوِرْدُ " فِي الْقُرْآنِ أَرْبَعَةُ أَوْرَادٍ: فِي هُودٍ قَوْلُهُ: {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} وَفِي مَرْيَمَ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [سُورَةُ مَرْيَمُ: 71]، وَوَرَدَ فِي "الْأَنْبِيَاءِ": {حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}، [سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ: 98]، وَوَرَدَ فِي "مَرْيَمَ" أَيْضًا: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [سُورَةُ مَرْيَمَ: 72] كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كُلُّ هَذَا الدُّخُولِ، وَاللَّهِ لَيَرِدْنَّ جَهَنَّمَ كُلُّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}، [سُورَةُ مَرْيَمَ: 86].
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَتْبَعَهُمُ اللَّهُ فِي هَذِهِ يَعْنِي فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مَعَ الْعَذَابِ الَّذِي عَجَّلَهُ لَهُمْ فِيهَا مِنَ الْغَرَقِ فِي الْبَحْرِ، لَعْنَتَهُ {وَيَوْمَ الْقِيَامَةٍ}، يَقُولُ: وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَيْضًا يُلْعَنُونَ لَعْنَةً أُخْرَى، كَمَا:- حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَهَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ}، قَالَ: لَعْنَةً أُخْرَى. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ}، قَالَ: زِيدُوا بِلَعْنَتِهِ لَعْنَةً أُخْرَى، فَتِلْكَ لَعْنَتَانِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}، اللَّعْنَةُ فِي إِثْرِ اللَّعْنَةِ. قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهُ ِ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ}، قَالَ: زِيدُوا لَعْنَةً أُخْرَى، فَتِلْكَ لَعْنَتَانِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: (فِي هَذِهِ)، قَالَ: فِي الدُّنْيَا (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ)، أُرْدِفُوا بِلَعْنَةٍ أُخْرَى، زِيدُوهَا، فَتِلْكَ لَعْنَتَانِ. وَقَوْلُهُ: {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}، يَقُولُ: بِئْسَ الْعَوْنُ الْمُعَانُ، اللَّعْنَةُ الْمَزِيدَةُ فِيهَا أُخْرَى مِثْلَهَا. وَأَصْلُ "الرَّفْدِ"، الْعَوْنُ، يُقَالُ مِنْهُ: "رَفَدَ فُلَانٌ فُلَانًا عِنْدَ الْأَمِيرِ يَرْفِدُهُ رِفْدًا " بِكَسْرِ الرَّاءِ وَإِذَا فَتَحْتَ، فَهُوَ السَّقْيُ فِي الْقَدَحِ الْعَظِيمِ، وَ "الرَّفْدُ": الْقَدَحُ الضَّخْمُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: رُبَّ رَفْدٍ هَرَقْتَهُ ذَلِكَ الْيَوْ *** مَ وَأَسْرَى مِنْ مَعْشَرٍ أَقْتَالِ وَيُقَالُ: "رَفَدَ فَلَانٌ حَائِطَهُ"، وَذَلِكَ إِذَا أَسْنَدَهُ بِخَشَبَةٍ، لِئَلَّا يَسْقُطَ. وَ "الرَّفْدُ"، بِفَتْحِ الرَّاءِ الْمَصْدَرِ. يُقَالُ مِنْهُ: "رَفَدَهُ يَرْفِدُهُ رَفْدًا"، وَ "الرِّفْدَ"، اسْمُ الشَّيْءِ الَّذِي يُعْطَاهُ الْإِنْسَانُ، وَهُوَ "الْمَرْفَدُ". وَيَنْحُو الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}، قَالَ: لَعْنَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}، قَالَ: لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا، وَزَيْدَ لَهُمْ فِيهَا اللَّعْنَةَ فِي الْآخِرَةِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}، قَالَ: لَعْنَةٌ فِي الدُّنْيَا، وَزِيدُوا فِيهَا لَعْنَةً فِي الْآخِرَةِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعَنَهً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}، يَقُولُ: تَرَادَفَتْ عَلَيْهِمُ اللَّعْنَتَانِ مِنَ اللَّهِ، لَعْنَةٌ فِي الدُّنْيَا، وَلَعْنَةٌ فِي الْآخِرَةِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنْ الضَّحَّاكِ، قَالَ: أَصَابَتْهُمْ لَعْنَتَانِ فِي الدُّنْيَا، رَفَدَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا الْقَصَصُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ،، وَالنَّبَأُ الَّذِي أَنْبَأْنَاكَهُ فِيهَا، مِنْ أَخْبَارِ الْقُرَى الَّتِي أَهْلَكْنَا أَهْلَهَا بِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُ {نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} فَنُخْبِرُكَ بِهِ (مِنْهَا قَائِمٌ)، يَقُولُ: مِنْهَا قَائِمٌ بُنْيَانُهُ، بَائِدٌ أَهْلُهُ هَالِكٌ، وَمِنْهَا قَائِمٌ بُنْيَانُهُ عَامِرٌ، وَمِنْهَا حَصِيدٌ بُنْيَانُهُ، خَرَابٌ مُتَدَاعٍ، قَدْ تُعْفَى أَثَرُهُ دَارِسٌ. مِنْ قَوْلِهِمْ: "زَرْعٌ حَصِيدٌ"، إِذَا كَانَ قَدِ اسْتُؤْصِلَ قَطَعَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْصُودٌ، وَلَكِنَّهُ صُرِفَ إِلَى "فَعِيلٍ"، كَمَا قَدْ بَيَّنَّا فِي نَظَائِرِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ}، يَعْنِي ب "القَائِمِ" قُرًى عَامِرَةٍ. وَ "الحَصِيدِ" قُرًى خَامِدَةٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {قَائِمٌ وَحَصِيدٌ}، قَالَ: "قَائِمٌ " عَلَى عُرُوشِهَا وَ"حَصِيدٌ" مُسْتَأْصَلَةٍ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {مِنْهَا قَائِمٌ}، يَرَى مَكَانَهُ، (وَحَصِيدُ) لَا يُرَى لَهُ أَثَرٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: (مِنْهَا قَائِمٌ)، قَالَ: خَاوٍ عَلَى عُرُوشِهِ (وَحَصِيدٌ)، مُلَزَقٌ بِالْأَرْضِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ: {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ}، قَالَ: خَرَّ بُنْيَانَهُ. حَدَّثَنَا الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ: {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ}، قَالَ: "الْحَصِيدُ"، مَا قَدْ خَرَّ بُنْيَانَهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ}، مِنْهَا قَائِمٌ يُرَى أَثَرُهُ، وَحَصِيدٌ بَادَ لَا يُرَى أَثَرَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍلَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا عَاقَبْنَا أَهْلَ هَذِهِ الْقُرَىِ الَّتِي اقْتَصَصْنَا نَبَأَهَا عَلَيْكَ، يَا مُحَمَّدُ، بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ مِنْهُمْ عُقُوبَتَنَا، فَنَكُونُ بِذَلِكَ قَدْ وَضَعْنَا عُقُوبَتَنَا هُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا {وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}، يَقُولُ: وَلَكِنَّهُمْ أَوْجَبُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِمَعْصِيَتِهِمْ اللَّهَ وَكُفْرِهُمْ بِهِ، عُقُوبَتَهُ وَعَذَابَهُ، فَأَحَلُّوا بِهَا مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُحِلُّوهُ بِهَا، وَأَوْجَبُوا لَهَا مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُوجِبُوهُ لَهَا {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}، يَقُولُ: فَمَا دَفَعَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَيَدْعُونَهَا أَرْبَابًا مِنْ عِقَابِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ إِذَا أَحَلَّهُ بِهِمْ رَبُّهُمْ مِنْ شَيْءٍ، وَلَا رَدَّتْ عَنْهُمْ شَيْئًا مِنْهُ {لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ}، يَا مُحَمَّدُ، يَقُولُ: لَمَّا جَاءَ قَضَاءُ رَبِّكَ بِعَذَابِهِمْ، فَحُقَّ عَلَيْهِمْ عِقَابُهُ، وَنَزَلَ بِهِمْ سَخَطُهُ {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ}، يَقُولُ: وَمَا زَادَتْهُمْ آلِهَتُهُمْ عِنْدَ مَجِيءِ أَمْرِ رَبِّكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِعِقَابِ اللَّهِ غَيْرَ تَخْسِيرٍ وَتَدْمِيرٍ وَإِهْلَاكٍ. يُقَالُ مِنْهُ: "تَبَّبْتُهُ أُتَبِّبُهُ تَتْبِيبًا"، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لِلرَّجُلِ: "تَبًّا لَكَ"، قَالَ جَرِيرٌ: عَرَادَةُ مِنْ بَقِيَّةِ قَوْمِ لُوطٍ *** أَلَّا تَبًّا لِمَا فَعَلُوا تَبَابَا وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سَلَامٍ أَبُو الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ نُسَيْرِ بْنِ ذُعْلُوقٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ}، قَالَ: غَيْرَ تَخْسِيرٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {غَيْرَ تَتْبِيبٍ}، قَالَ: تَخْسِيرٍ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {غَيْرَ تَتْبِيبٍ}، يَقُولُ: غَيْرَ تَخْسِيرٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {غَيْرَ تَتْبِيبٍ}، قَالَ: غَيْرَ تَخْسِيرٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْخَبَرُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَمَّنْ مَضَى مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَنَا، فَإِنَّهُ وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَنَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ، أَنَّا إِنْ سَلَكْنَا سَبِيلَ الْأُمَمِ قَبِلَنَا فِي الْخِلَافِ عَلَيْهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، سَلَكَ بِنَا سَبِيلَهُمْ فِي الْعُقُوبَةِ وَإِعْلَامٌ مِنْهُ لَنَا أَنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ، وَأَنَّ الْعِبَادَ هُمُ الَّذِينَ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ، كَمَا:- حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ قَالَ، اعْتَذَرَ يَعْنِي رَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِلَى خَلْقِهِ فَقَالَ: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ}، مِمَّا ذَكَرْنَا لَكَ مِنْ عَذَابِ مَنْ عَذَّبْنَا مِنَ الْأُمَمِ، {وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ}، حَتَّى بَلَغَ: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ}، قَالَ: مَا زَادَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكَمَا أَخَذْتُ، أَيُّهَا النَّاسُ، أَهْلَ هَذِهِ الْقُرَى الَّتِي اقْتَصَصْتَ عَلَيْكَ نَبَأَ أَهْلِهَا بِمَا أَخَذْتُهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، عَلَى خِلَافِهِمْ أَمْرِي، وَتَكْذِيبِهِمْ رُسُلِي، وَجُحُودِهِمْ آيَاتِي، فَكَذَلِكَ أَخْذِي الْقُرَى وَأَهْلِهَا إِذَا أَخَذْتُهُمْ بِعِقَابِي، وَهُمْ ظَلَمَةٌ لِأَنْفُسِهِمْ بِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، وَإِشْرَاكِهِمْ بِهِ غَيْرَهُ، وَتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُ {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ}، يَقُولُ: إِنَّ أَخْذَ رَبِّكُمْ بِالْعِقَابِ مِنْ أَخْذِهِ (أَلِيمٌ)، يَقُولُ: مُوجِعٌ (شَدِيدُ) الْإِيجَاعِ. وَهَذَا مِنَ اللَّهِ تَحْذِيرٌ لِهَذِهِ الْأَمَةِ، أَنْ يَسْلُكُوا فِي مَعْصِيَتِهِ طَرِيقَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْفَاجِرَةِ، فَيَحِلُّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْمَثُلَاتِ، كَمَا:- حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةُ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يُمْلِي وَرُبَّمَا، قَالَ: يُمْهِلُ الظَّالِمَ، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ. ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ}». حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّ اللَّهَ حَذَّرَ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَطْوَتَهُ بِقَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}. وَكَانَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ يَقْرَأُ ذَلِكَ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ)، وَذَلِكَ قِرَاءَةٌ لَا أَسْتَجِيزُ الْقِرَاءَةَ بِهَا لِخِلَافِهَا مَصَاحِفَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا عَلَيْهِ قَرَأَةُ الْأَمْصَارِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ فِي أَخْذِنَا مَنْ أَخَذْنَا مِنْ أَهَلِ الْقُرَى الَّتِي اقْتَصَصْنَا خَبَرَهَا عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ لَآيَةً، يَقُولُ: لِعِبْرَةً وَعِظَةً لِمَنْ خَافَ عِقَابَ اللَّهِ وَعَذَابَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ عِبَادِهِ، وَحُجَّةً عَلَيْهِ لِرَبِّهِ، وَزَاجِرًا يَزْجُرُهُ عَنْ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ وَيُخَالِفَهُ فِيمَا أَمَرَهُ وَنَهَاهُ. وَقِيلَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: إِنَّ فِيهِ عِبْرَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ، بِأَنَّ اللَّهَ سَيَفِي لَهُ بِوَعْدِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَهً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ}، إِنَّا سَوْفَ نَفِي لَهُمْ بِمَا وَعَدْنَاهُمْ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا وَفَيْنَا لِلْأَنْبِيَاءِ: أَنَّا نَنْصُرُهُمْ. وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ}، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَذَا الْيَوْمُ يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ {يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ}، يَقُولُ: يَحْشُرُ اللَّهُ لَهُ النَّاسَ مِنْ قُبُورِهِمْ، فَيَجْمَعُهُمْ فِيهِ لِلْجَزَاءِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}، يَقُولُ: وَهُوَ يَوْمٌ تَشْهَدُهُ الْخَلَائِقُ، لَا يَتَخَلَّفُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَيَنْتَقِمُ حِينَئِذٍ مِمَّنْ عَصَى اللَّهَ وَخَالَفَ أَمْرَهُ وَكَذَّبَ رُسُلَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}، قَالَ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ الْمَكِّيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، "الشَّاهِدُ"، مُحَمَّدٌ، وَ "المَشْهُودُ"، يَوْمُ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ قَرَأَ: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ قَالَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "الشَّاهِدُ"، مُحَمَّدٌ وَ "المَشْهُودُ"، يَوْمُ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}. حُدِّثْتُ عَنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ قَوْلُهُ: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}، قَالَ: ذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، يَجْتَمِعُ فِيهِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ، وَيَشْهَدُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا نُؤَخِّرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْكُمْ أَنْ نَجِيئَكُمْ بِهِ إِلَّا لِأَنْ يُقْضَى، فَقَضَى لَهُ أَجَلًا فَعَدَّهُ وَأَحْصَاهُ، فَلَا يَأْتِي إِلَّا لِأَجَلِهِ ذَلِكَ، لَا يَتَقَدَّمُ مَجِيئُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا يَتَأَخَّرُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَوْمَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيُّهَا النَّاسُ، وَتَقُومُ السَّاعَةُ، لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِ رَبِّهَا. وَاخْتَلَفَتِ الْقَرْأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: (يَوْمَ يَأْتِي). فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهِلِ الْمَدِينَةِ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِيهَا {يَوْمَ يَأْتِي لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ}. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قَرَأَةِ أَهِلِ الْبَصْرَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِيهَا فِي الْوَصْلِ وَحَذْفِهَا فِي الْوَقْفِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ بِحَذْفِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي: (يَوْمَ يَأْتِ)، بِحَذْفِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ اتِّبَاعًا لِخَطِّ الْمُصْحَفِ، وَأَنَّهَا لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ لِهُذَيْلٍ، تَقُولُ: "مَا أَدْرِ مَا تَقُولُ"، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: كَفَّاكَ كَفٌّ مَا تُلِيقُ دِرْهَمَا *** جُودًا وَأُخْرَى تُعْطِ بِالسَّيْفِ الدَّمَا وَقِيلَ: (لَا تَكَلَّمُ)، وَإِنَّمَا هِيَ "لَا تَتَكَلَّمُ"، فَحَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ اجْتِزَاءً بِدَلَالَةِ الْبَاقِيَةِ مِنْهُمَا عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}، يَقُولُ: فَمِنْ هَذِهِ النُّفُوسِ الَّتِي لَا تَكَلَّمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا بِإِذْنِ رَبِّهَا، شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ وَعَادَ عَلَى "النَّفْسِ"، وَهِيَ فِي اللَّفْظِ وَاحِدَةٌ، بِذِكْرِ الْجَمِيعِ فِي قَوْلِهِ: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}. يَقُولُ: تَعَالَى ذِكْرُهُ: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} وَهُوَ أَوَّلُ نُهَاقِ الْحِمَارِ وَشِبْهِهِ (وَشَهِيقٌ)، وَهُوَ آخِرُ نَهِيقِهِ إِذَا رَدَّدَهُ فِي الْجَوْفِ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ نُهَاقِهِ، كَمَا قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ: حَشْرَجَ فِي الْجَوْفِ سَحِيلًا أَوْ شَهَقْ *** حَتَّى يُقَالَ نَاهِقٌ وَمَا نَهَقْ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ}، يَقُولُ: صَوْتٌ شَدِيدٌ وَصَوْتٌ ضَعِيفٌ. قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ}، قَالَ: "الزَّفِيرُ" فِي الْحَلْقِ، وَ "الشَّهِيقُ" فِي الصَّدْرِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: صَوْتُ الْكَافِرِ فِي النَّارِ صَوْتُ الْحِمَارِ، أَوَّلُهُ زَفِيرٌ وَآخِرُهُ شَهِيقٌ حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ الْبَحْرَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالُوا، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سُفْيَانَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ «عَنْ عُمْرَ قَالَ، لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}، سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَعَلَامَ عَمَلُنَا؟ عَلَى شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، أَمْ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يُفْرَغْ مِنْهُ؟ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، يَا عُمَرُ، وَجَرَتْ بِهِ الْأَقْلَامُ، وَلَكِنْ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَه» اللَّفْظُ لِحَدِيثِ ابْنِ مَعْمَرٍ. وَقَوْلُهُ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنْ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}، يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {خَالِدِينَ فِيهَا}، لَابِثِينَ فِيهَا وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ}، أَبَدًا. وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَصِفَ الشَّيْءَ بِالدَّوَامِ أَبَدًا قَالَتْ: هَذَا دَائِمٌ دَوَامَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ دَائِمٌ أَبَدًا، وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ: "هُوَ بَاقٍ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ". وَ"مَا سَمُرَ ابْنَا سَمِيرٍ"، وَ"مَا لَأْلَأَتِ الْعُفْرُ بِأَذْنَابِهَا " يَعْنُونَ بِذَلِكَ كُلَّهُ "أَبَدًا". فَخَاطَبَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِمَا يَتَعَارَفُونَ بِهِ بَيْنَهُمْ فَقَالَ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ}، وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا. وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ فِي ذَلِكَ بِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِيهِ. حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ}، قَالَ: مَا دَامَتِ الْأَرْضُ أَرْضًا، وَالسَّمَاءُ سَمَاءً. ثُمَّ قَالَ: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالتَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ فِي أَهْلِ التَّوْحِيدِ، أَنَّهُ يُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ إِذَا شَاءَ، بَعْدَ أَنْ أَدْخَلَهُمُ النَّارَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}، قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِثُنْيَاهُ. وَذَكَرَ لَنَا أَنَّ نَاسًا يُصِيبُهُمْ سَفْعٌ مِنَ النَّارِ بِذُنُوبٍ أَصَابُوهَا، ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِثَنِيَّتِهِ. ذَكَرَ لَنَا أَنَّ نَاسًا يُصِيبُهُمْ سَفْعٌ مِنَ النَّارِ بِذُنُوبٍ أَصَابَتْهُمْ، ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، يُقَالُ لَهُمْ: "الْجُهَنَّمِيُّونَ ". حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فُرُّوخَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو هِلَالٍ قَالَ، حَدَّثَنَا قَتَادَةَ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ}، إِلَى قَوْلِهِ: (لِمَا يُرِيدُ)، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّار» قَالَ قَتَادَةَ: وَلَا نَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ أَهْلُ حَرَوْرَاءَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، يَعْنِي ثَعْلَبَةَ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ فِي قَوْلِهِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}، قَالَ: اسْتِثْنَاءٌ فِي أَهْلِ التَّوْحِيدِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ}، إِلَى قَوْلِهِ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}، قَالَ: يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَهُمُ الَّذِينَ اُسْتُثْنِيَ لَهُمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَامِرِ بْنِ جَشِيبٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ فِي قَوْلِهِ: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا}، [سُورَةُ النَّبَأِ: 23]، وَقَوْلُهُ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}، أَنَّهُمَا فِي أَهْلِ التَّوْحِيدِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الِاسْتِثْنَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَهْلِ التَّوْحِيدِ، إِلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: مَعْنَى قَوْلِهِ: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّكَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنْهُمْ فَلَا يُدْخِلُهُمُ النَّارَ. وَوَجَّهُوا الِاسْتِثْنَاءَ إِلَى أَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ} {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}، لَا مِنْ "الْخُلُودِ".
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرٍ أَوْ: أَبِي سَعِيدٍ يَعْنِي الْخُدْرِيَّ أَوْ: عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}، قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَأْتِي عَلَى الْقُرْآنِ كُلِّهِ يَقُولُ: حَيْثُ كَانَ فِي الْقُرْآنِ {خَالِدِينَ فِيهَا}، تَأْتِي عَلَيْهِ قَالَ: وٍََسَمِعْتُ أَبَا مِجْلَزٍ يَقُولُ: هُوَ جَزَاؤُهُ، فَإِنْ شَاءَ اللَّهُ تَجَاوَزَ عَنْ عَذَابِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِذَلِكَ أَهْلَ النَّارِ وَكُلَّ مَنْ دَخَلَهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ الْمُسَيَّبِ عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ}، لَا يَمُوتُونَ، وَلَا هُمْ مِنْهَا يَخْرُجُونَ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}، قَالَ: اسْتِثْنَاءُ اللَّهِ. قَالَ: يَأْمُرُ النَّارَ أَنْ تَأْكُلَهُمْ. قَالَ: وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى جَهَنَّمَ زَمَانٌ تُخْفِقُ أَبْوَابُهَا، لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا يَلْبَثُونَ فِيهَا أَحْقَابًا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٍ، عَنْ بَيَانٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: جَهَنَّمُ أَسْرَعُ الدَّارَيْنِ عُمْرَانًا وَأَسْرَعُهُمَا خَرَابًا. وَقَالَ آخَرُونَ: أَخْبَرَنَا اللَّهُ بِمَشِيئَتِهِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، فَعَرَّفْنَا مَعْنَى ثُنْيَاهُ بِقَوْلِهِ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، أَنَّهَا فِي الزِّيَادَةِ عَلَى مِقْدَارِ مُدَّةِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.قَالَ: وَلَمْ يُخْبِرْنَا بِمَشِيئَتِهِ فِي أَهْلِ النَّارِ. وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ مَشِيئَتَهُ فِي الزِّيَادَةِ، وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ فِي النُّقْصَانِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}، فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، قَالَ: وَأَخْبَرَنَا بِالَّذِي يَشَاءُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، وَلَمْ يُخْبِرْنَا بِالَّذِي يَشَاءُ لِأَهْلِ النَّارِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالصَّوَابِ، الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْ قَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ: مِنْ أَنَّ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ فِي أَهْلِ التَّوْحِيدِ مَنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ أَنَّهُ يُدْخِلُهُمُ النَّارَ، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِلَّا مَا شَاءَ مِنْ تَرْكِهِمْ فِيهَا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، كَمَا قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصِّحَّةِ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَوْعَدَ أَهْلَ الشِّرْكِ بِهِ الْخُلُودَ فِي النَّارِ، وَتَظَاهَرَتْ بِذَلِكَ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً فِي أَهْلِ الشِّرْكِ وَأَنَّ الْأَخْبَارَ قَدْ تَوَاتَرَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ بِذُنُوبٍ أَصَابُوهَا النَّارَ، ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّة»، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً فِي أَهْلِ التَّوْحِيدِ قَبْلَ دُخُولِهَا، مَعَ صِحَّةِ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا ذَكَرْنَا وَأَنَّا إِنْ جَعَلْنَاهُ اسْتِثْنَاءً فِي ذَلِكَ، كُنَّا قَدْ دَخَلْنَا فِي قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَاسِقٌ، وَلَا النَّارَ مُؤْمِنٌ"، وَذَلِكَ خِلَافَ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِذَا فَسَدَ هَذَانَ الْوَجْهَانِ، فَلَا قَوْلَ قَالَ بِهِ الْقُدْوَةُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَّا الثَّالِثَ. وَلِأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِي ذَلِكَ مَذْهَبٌ غَيْرَ ذَلِكَ، سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ، وَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ رَبَّكَ، يَا مُحَمَّدُ، لَا يَمْنَعُهُ مَانِعٌ مِنْ فِعْلِ مَا أَرَادَ فِعْلَهُ بِمَنْ عَصَاهُ وَخَالَفَ أَمْرَهُ، مِنَ الِانْتِقَامِ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ فِعْلَهُ، فَيَمْضِي فِيهِمْ وَفِيمَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ فِعْلُهُ وَقَضَاؤُهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُإِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَاخْتَلَفَتِ الْقَرْأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْمَدِينَةِ وَالْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ: {وَأَمَّا الَّذِينَ سَعِدُوا}، بِفَتْحِ السِّينِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ قَرَأَةِ الْكُوفَةِ: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا}، بِضَمِّ السِّينِ، بِمَعْنَى: رُزِقُوا السَّعَادَةَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ الصَّوَابَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قَيْلُ: (سُعِدُوا)، فِيمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَلَمْ يَقُلْ: "أَسْعَدُوا"، وَأَنْتَ لَا تَقُولُ فِي الْخَبَرِ فِيمَا سُمِّى فَاعِلُهُ: "سَعَّدَهُ اللَّهُ "، بَلْ إِنَّمَا تَقُولُ: "أَسْعَدَهُ اللَّهُ "؟ قِيلَ ذَلِكَ نَظِيرَ قَوْلِهِمْ: "هُوَ مَجْنُونٌ " وَ"مَحْبُوبٌ"، فِيمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَإِذَا سَمَّوْا فَاعِلَهُ قِيلَ: "أَجْنَّهُ اللَّهُ "، وَ"أَحَبَّهُ"، وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرًا. وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا. وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا بِرَحْمَةِ اللَّهِ، فَهُمْ فِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، يَقُولُ: أَبَدًا {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}. فَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}، مِنْ قَدْرِ مَا مَكَثُوا فِي النَّارِ قَبْلَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ. قَالُوا: وَذَلِكَ فِيمَنْ أُخْرِجَ مِنَ النَّارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}، قَالَ: هُوَ أَيْضًا فِي الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ. يَقُولُ: خَالِدِينَ فِي الْجَنَّةِ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ. يَقُولُ: إِلَّا مَا مَكَثُوا فِي النَّارِ حَتَّى أُدْخِلُوا الْجَنَّةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}، مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ مُدَّةِ دَوَامِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، قَالُوا: وَذَلِكَ هُوَ الْخُلُودُ فِيهَا أَبَدًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، يَعْنِي ثَعْلَبَةَ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}، قَالَ: وَمَشِيئَتُهُ خُلُودُهُمْ فِيهَا، ثُمَّ أَتْبَعَهَا فَقَالَ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَجْعَلَهُ اسْتِثْنَاءً يَسْتَثْنِيهِ وَلَا يَفْعَلُهُ، كَقَوْلِكَ: "وَاللَّهِ لِأَضْرِبَنَّكَ إِلَّا أَنْ أَرَى غَيْرَ ذَلِكَ"، وَعَزْمُكَ عَلَى ضَرْبِهِ. قَالَ: فَكَذَلِكَ قَالَ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}، وَلَا يَشَاؤُهُ، [وَهُوَ أَعْلَمُ]. قَالَ: وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا اسْتَثْنَتْ شَيْئًا كَثِيرًا مَعَ مِثْلَهُ، وَمَعَ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ، كَانَ مَعْنَى "إِلَّا " وَمَعْنَى "الْوَاوِ" سَوَاءً. فَمَنْ كَانَ قَوْلُهُ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ} سِوَى مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ زِيَادَةِ الْخُلُودِ، فَيَجْعَلُ "إِلَّا" مَكَانَ "سِوَى" فَيَصْلُحُ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: "خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ سِوَى مَا زَادَهُمْ مِنَ الْخُلُودِ وَالْأَبَدِ". وَمِثْلَهُ فِي الْكَلَامِ أَنْ تَقُولَ: لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ إِلَّا أَلْفَيْنِ اللَّذَيْنِ [مِنْ قِبَلِ فُلَانٍ"، أَفَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي الْمَعْنَى: لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ سِوَى الْأَلْفَيْنِ]؟ قَالَ: وَهَذَا أَحَبُّ الْوَجْهَيْنِ إِلَيَّ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا خُلْفَ لِوَعْدِهِ. وَقَدْ وَصَلَ الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ فِي الْخُلُودِ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ عَنْهُمْ. وَقَالَ آخِرُ مِنْهُمْ بِنَحْوِ هَذَا الْقَوْلِ. وَقَالُوا: جَائِزٌ فِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اسْتَثْنَى مِنْ خُلُودِهِمْ فِي الْجَنَّةِ احْتِبَاسَهُمْ عَنْهَا مَا بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْبَعْثِ، وَهُوَ الْبَرْزَخُ، إِلَى أَنْ يَصِيرُوا إِلَى الْجَنَّةِ، ثُمَّ هُوَ خُلُودُ الْأَبَدِ. يَقُولُ: فَلَمْ يَغِيبُوا عَنِ الْجَنَّةِ إِلَّا بِقَدْرِ إِقَامَتِهِمْ فِي الْبَرْزَخِ. وَقَالَ آخَرُ مِنْهُمْ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ دَوَامُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، بِمَعْنَى: الْأَبَدُ، عَلَى مَا تَعْرِفُ الْعَرَبُ وَتَسْتَعْمِلُ، وَتُسْتَثْنَى الْمَشِيئَةُ مِنْ دَوَامِهَا، لِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ قَدْ كَانُوا فِي وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ دَوَامِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي الدُّنْيَا، لَا فِي الْجَنَّةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: خَالِدِينَ فِي الْجَنَّةِ، وَخَالِدِينَ فِي النَّارِ، دَوَامَ السَّمَاءِ، وَالْأَرْضِ، إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ مِنْ تَعْمِيرِهِمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْتُهُ عَنِ الضَّحَّاكِ، وَهُوَ {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}، مِنْ قَدْرِ مُكْثِهِمْ فِي النَّارِ، مِنْ لَدُنْ دَخَلُوهَا إِلَى أَنِ ادْخِلُوا الْجَنَّةَ، وَتَكُونُ الْآيَةُ مَعْنَاهَا الْخُصُوصُ، لِأَنَّ الْأَشْهَرَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي "إِلَّا" تَوْجِيهُهَا إِلَى مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَإِخْرَاجِ مَعْنَى مَا بَعْدَهَا مِمَّا قَبِلَهَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا دَلَالَةٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَلَا دَلَالَةَ فِي الْكَلَامِ أَعْنِي فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهَا غَيْرَ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمَفْهُومِ فِي الْكَلَامِ، فَيُوَجَّهُ إِلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي: عَطَاءً مِنَ اللَّهِ غَيْرَ مَقْطُوعٍ عَنْهُمْ. مِنْ قَوْلِهِمْ: "جَذَذْتُ الشَّيْءَ أَجُذُّهُ جَذًّا"، إِذَا قَطَعْتُهُ، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ: تَجُذُّ السَّلُوقِيَّ الْمُضَاعَفَ نَسْجُهُ *** وَيُوقِدْنَ بِالصُّفَّاحِ نَارَ الْحُبَاحِبِ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: "تَجُذُّ": تَقْطَعُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، قَالَ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، يَقُولُ: غَيْرُ مُنْقَطِعٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، يَقُولُ: عَطَاءٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {مَجْذُوذٍ}، قَالَ: مَقْطُوعٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، قَالَ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ. قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ. عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَوْلُهُ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، قَالَ: أَمَّا هَذِهِ فَقَدَ أَمْضَاهَا. يَقُولُ: عَطَاءٌ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، غَيْرَ مَنْزُوعٍ مِنْهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُوَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَا تَكُ فِي شَكٍّ، يَا مُحَمَّدُ، مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قَوْمِكَ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَصْنَامِ، أَنَّهُ ضَلَالٌ وَبَاطِلٌ، وَأَنَّهُ بِاللَّهِ شِرْكٌ {مَا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ}، يَقُولُ: إِلَّا كَعِبَادَةِ آبَائِهِمْ، مِنْ قَبْلِ عِبَادَتِهِمْ لَهَا. يُخْبِرُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوا مَا عَبَدُوا مِنَ الْأَوْثَانِ إِلَّا اتِّبَاعًا مِنْهُمْ مِنْهَاجَ آبَائِهِمْ، وَاقْتِفَاءً مِنْهُمْ آثَارَهُمْ فِي عِبَادَتِهِمُوهَا، لَا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ، وَلَا بِحُجَّةِ تَبَيَّنُوهَا تُوجِبُ عَلَيْهِمْ عِبَادَتَهَا. ثُمَّ أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَبِيَّهُ مَا هُوَ فَاعِلٌ بِهِمْ لِعِبَادَتِهِمْ ذَلِكَ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ}، يَعْنِي: حَظُّهُمْ مِمَّا وَعَدَتْهُمْ أَنْ أُوَفِّيَهُمُوهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ {غَيْرَ مَنْقُوصٍ}، يَقُولُ: لَا أَنْقُصُهُمْ مِمَّا وَعَدْتُهُمْ، بَلْ أُتَمِّمُ ذَلِكَ لَهُمْ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، كَمَا:- حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ}، قَالَ: مَا وُعِدُوا فِيهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَا حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ إِلَّا أَنْ أَبَا كُرَيْبٍ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، أَخْبَرَنَا سُوَيْدٌ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ}، قَالَ: مَا قُدِّرَ لَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدِ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ}، قَالَ: مَا يُصِيبُهُمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ}، قَالَ: نَصِيبُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْوَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، مُسَلِّيًا نَبِيَهُ فِي تَكْذِيبِ مُشْرِكِي قَوْمِهِ إِيَّاهُ فِيمَا أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، بِفِعْلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمُوسَى فِيمَا أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. يَقُولُ لَهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَا يُحْزِنُكَ، يَا مُحَمَّدُ، تَكْذِيبُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ لَكَ، وَامْضِ لِمَا أَمَرَكَ بِهِ رَبُّكَ مِنْ تَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ، فَإِنَّ الَّذِي يَفْعَلُ بِكَ هَؤُلَاءِ مِنْ رَدٍ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ عَلَيْكَ مِنَ النَّصِيحَةِ مِنْ فِعْلِ ضُرَبَائِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ وَسُنَّةٌ مِنْ سُنَّتِهِمْ. ثُمَّ أَخْبَرَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِمَا فَعَلَ قَوْمُ مُوسَى بِهِ فَقَالَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ}، يَعْنِي: التَّوْرَاةُ، كَمَا آتَيْنَاكَ الْفَرْقَانَ، فَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ قَوْمُ مُوسَى، فَكَذَّبَ بِهِ بَعْضُهُمْ وَصَدَّقَ بِهِ بَعْضُهُمْ، كَمَا قَدْ فَعَلَ قَوْمُكَ بِالْفُرْقَانِ مِنْ تَصْدِيقِ بَعْضٍ بِهِ، وَتَكْذِيبِ بَعْضٍ {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ}، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ، يَا مُحَمَّدُ، مِنْ رَبِّكَ بِأَنَّهُ لَا يُعَجِّلُ عَلَى خَلْقِهِ الْعَذَابَ، وَلَكِنْ يَتَأَنَّى حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}، يَقُولُ: لَقُضِيَ بَيْنَ الْمُكَذِّبِ مِنْهُمْ بِهِ وَالْمُصَدِّقِ، بِإِهْلَاكِ اللَّهِ الْمُكَذِّبِ بِهِ مِنْهُمْ، وَإِنْجَائِهِ الْمُصَدِّقِ بِهِ {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}، يَقُولُ: وَإِنَّ الْمُكَذِّبِينَ بِهِ مِنْهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْ حَقِيقَتِهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (مُرِيبٍ)، يَقُولُ: يُرِيبُهُمْ، فَلَا يَدْرُونَ أَحُقٌّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ؟ وَلَكِنَّهُمْ فِيهِ مُمْتَرُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَتِ الْقَرْأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَتْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ: (وَإِنَّ) مُشَدَّدَةٌ (كُلًّا لَمَّا) مُشَدَّدَةٌ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ: فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفِيِّينَ: مَعْنَاهُ إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ: وَإِنَّ كُلًّا لَمِمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ , وَلَكِنْ لَمَّا اجْتَمَعَتِ الْمِيمَاتُ حُذِفَتْ وَاحِدَةٌ، فَبَقِيَتِ ثْنَتَانِ، فَأُدْغِمَتْ وَاحِدَةٌ فِي الْأُخْرَى، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنِّي لَمِمَّا أُصْدِرُ الْأَمْرَ وَجْهَهُ *** إِذَا هُوَ أَعْيَى بِالسَّبِيلِ مَصَادِرُهُ ثُمَّ تُخَفَّفُ، كَمَا قَرَأَ بَعْضُ الْقَرَأَةِ: {وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ}، [سُورَةُ النَّحْلِ: 90]، تُخَفُّ الْيَاءُ مَعَ الْيَاءِ. وَذَكَرَ أَنَّ الْكِسَائِيَّ أَنْشَدَهُ: وَأَشْمَتَّ الْعُدَاةَ بِنَا فَأَضْحَوْا *** لدَيْ يَتَبَاشَرُونَ بِمَا لَقِينَا وَقَالَ: يُرِيدُ "لَدَيَّ يَتَبَاشَرُونَ بِمَا لَقِينَا"، فَحَذَفَ يَاءً، لِحَرَكَتِهِنَّ وَاجْتِمَاعِهِنَّ، قَالَ: وَمِثْلَهُ: كَأَنَّ مِنْ آخِرِهَا إِلْقَادِمِ *** مَخْرِمُ نَجْدٍ فَارِعِ الْمَخَارِمِ وَقَالَ: أَرَادَ: إِلَى الْقَادِمِ، فَحَذَفَ اللَّامَ عِنْدَ اللَّامِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ: وَإِنَّ كُلًّا شَدِيدًا وَحَقًّا، لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ. قَالَ: وَإِنَّمَا يُرَادُ إِذَا قُرِئَ ذَلِكَ كَذَلِكَ: {وَإِنَّ كُلًّا لَمًّا} بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّنْوِينِ، وَلَكِنْ قَارِئُ ذَلِكَ كَذَلِكَ حَذَفَ مِنْهُ التَّنْوِينَ، فَأَخْرَجَهُ عَلَى لَفْظِ فَعَّلَ "لَمَّا"، كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى}، [سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ: 44]، فَقَرَأَ "تَتْرَى"، بَعْضُهُمْ بِالتَّنْوِينِ، كَمَا قَرَأَ مَنْ قَرَأَ: "لَمَّا" بِالتَّنْوِينِ، وَقَرَأَهَا آخَرُونَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، كَمَا قَرَأَ (لَمَّا) بِغَيْرِ تَنْوِينٍ مَنْ قَرَأَهُ. وَقَالُوا: أَصِلُهُ مِنْ "اللَّمِّ" مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا}، يَعْنِي: أَكْلًا شَدِيدًا. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ: وَإِنَّ كُلًّا إِلَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: " بِاللَّهِ لَمَّا قُمْتَ عَنَّا، وَبِاللَّهِ إِلَّا قُمْتَ عَنَّا". قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَوَجَدْتُ عَامَّةَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّةِ يُنْكِرُونَ هَذَا الْقَوْلَ، وَيَأْبَوْنَ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا تَوْجِيهُ "لَمَّا" إِلَى مَعْنَى "إِلَّا"، إِلَّا فِي الْيَمِينِ خَاصَّةً. وَقَالُوا: لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِمَعْنَى إِلَّا جَازَ أَنْ يُقَالَ: "قَامَ الْقَوْمُ لَمَّا أَخَاكَ" بِمَعْنَى: إِلَّا أَخَاكَ، وَدُخُولُهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ صَلُحَ دُخُولُ "إِلَّا" فِيهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَنَا أَرَى أَنَّ ذَلِكَ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهٍ هُوَ أَبْيَنُ مِمَّا قَالَهُ الَّذِينَ حَكَيْنَا قَوْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، فِي فَسَادِهِ، وَهُوَ أَنَّ "إِنَّ" إِثْبَاتٌ لِلشَّيْءِ وَتَحْقِيقٌ لَهُ، وَ"إِلَّا"، تَحْقِيقٌ أَيْضًا، وَإِنَّمَا تَدْخُلُ نَقْضًا لَجَحْدٍ قَدْ تَقَدَّمَهَا. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهَا، فَوَاجِبٌ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ مُتَأَوَّلِهَا التَّأْوِيلَ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْهُ، أَنْ تَكُونَ "إِنَّ" بِمَعْنَى الْجَحْدِ عِنْدَهُ، حَتَّى تَكُونَ "إِلَّا نَقْضًا" لَهَا. وَذَلِكَ إِنْ قَالَهُ قَائِلٌ، قَوْلٌ لَا يَخْفَى جَهْلُ قَائِلِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُخَفِّفَ قَارِئٌ "إِنْ" فَيَجْعَلُهَا بِمَعْنَى "إِنَّ" الَّتِي تَكُونُ بِمَعْنَى الْجَحْدِ. وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَسَدَتْ قِرَاءَتُهُ ذَلِكَ كَذَلِكَ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَصِيرُ حِينَئِذٍ نَاصِبًا "لِكُلٍّ" بُقُولِهِ: لَيُوَفِّيَنَّهُمْ، وَلَيْسَ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُنْصَبَ مَا بَعْدَ "إِلَّا" مِنَ الْفِعْلِ، الِاسْمَ الَّذِي قَبِلَهَا. لَا تَقُولُ الْعَرَبُ: "مَا زَيْدًا إِلَّا ضَرَبْتَ"، فَيَفْسُدُ ذَلِكَ إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، إِلَّا أَنْ يَرْفَعَ رَافِعٌ "الْكُلَّ"، فَيُخَالِفُ بِقِرَاءَتِهِ ذَلِكَ كَذَلِكَ قِرَاءَةَ الْقَرَأَةِ وَخَطَّ مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنَ الْعَيْبِ لِخُرُوجِهِ مِنْ مَعْرُوفِ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقَدْ قَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قَرَأَةِ الْكُوفِيِّينَ: (وَإِنْ كُلًّا) بِتَخْفِيفِ "إِنَّ" وَنَصْبِ (كُلًّا لَمَّا) مُشَدَّدَةً. وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ قَارِئَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، أَرَادَ "إِنَّ" الثَّقِيلَةَ فَخَفَّفَهَا، وَذُكِرَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ: "كَأَنْ ثَدْيَيْهِ حُقَّانِ"، فَنَصَبَ ب "كَأَنْ "، وَالنُّونَ مُخَفَّفَةً مِنْ "كَأَنَّ"، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَوَجْهٌ مُشْرِقُ النَّحْرِ *** كَأَنْ ثَدْيَيْهِ حُقَّانِ وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمَدَنِيِّينَ بِتَخْفِيفِ: (إِنْ) وَنَصْبِ (كُلًّا)، وَتَخْفِيفِ (لَمَا). وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَارِئُ ذَلِكَ كَذَلِكَ، قَصَدَ الْمَعْنَى الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْ قَارِئِ الْكُوفَةِ مِنْ تَخْفِيفِهِ نُونَ "إِنَّ" وَهُوَ يُرِيدُ تَشْدِيدَهَا، وَيُرِيدُ ب "مَا" الَّتِي فِي "لَمَّا" الَّتِي تَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ صِلَةً، وَأَنْ يَكُونَ قَصَدَ إِلَى تَحْمِيلِ الْكَلَامِ مَعْنَى: وَإِنَّ كُلًّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ كَانَ فِي قِرَاءَتِهِ ذَلِكَ كَذَلِكَ: وَإِنَّ كُلًّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ، أَيْ: لَيُوَفِيَنَّ كُلًّا فَيَكُونُ نِيَّتُهُ فِي نَصْبِ "كُلٍّ" كَانَتْ بِقَوْلِهِ: "لَيُوَفِّيَنَّهُمْ"، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَرَادَ، فَفِيهِ مِنَ الْقُبْحِ مَا ذَكَرْتُ مِنْ خِلَافِهِ كَلَامَ الْعَرَبِ. وَذَلِكَ أَنَّهَا لَا تَنْصِبُ بِفِعْلٍ بَعْدَ لَامِ الْيَمِينِ اسْمًا قَبْلَهَا. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ: (وَإِنَّ) مُشَدَّدَةٌ (كُلًّا لَمَا) مُخَفَّفَةٌ (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ). وَلِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَجْهَانِ مِنَ الْمَعْنَى: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَارِئُهَا أَرَادَ: وَإِنَّ كُلًّا لَمَنْ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ، فَيُوَجِّهُ "مَا" الَّتِي فِي "لَمَّا" إِلَى مَعْنَى "مِنْ" كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}، [سُورَةُ النِّسَاءِ: 3]، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ لَهَا فِي غَيْرِ بَنِي آدَمَ وَيَنْوِي بِاللَّامِ الَّتِي فِي "لَمَّا" اللَّامَ الَّتِي تُتَلَقَّى بِهَا "إِنْ" جَوَابًا لَهَا، وَبِاللَّامِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ)، لَامُ الْيَمِينِ، دَخَلَتْ فِيمَا بَيْنَ مَا وَصِلَتِهَا، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 72]، وَكَمَا يُقَالُ: "هَذَا مَا لَغَيْرُهُ أَفْضَلُ مِنْهُ". وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَجْعَلَ "مَا" الَّتِي فِي "لَمَّا" بِمَعْنَى "مَا" الَّتِي تَدْخُلُ صِلَةً فِي الْكَلَامِ، وَاللَّامُ الَّتِي فِيهَا هِيَ اللَّامُ الَّتِي يُجَابُ بِهَا، وَاللَّامُ الَّتِي فِي: (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ)، هِيَ أَيْضًا اللَّامُ الَّتِي يُجَابُ بِهَا "إِنَّ" كُرِّرَتْ وَأُعِيدَتْ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ مَوْضِعَهَا، وَكَانَتِ الْأُولَى مِمَّا تُدْخِلُهَا الْعَرَبُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، ثُمَّ تُعِيدُهَا بَعْدُ فِي مَوْضِعِهَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَوْ أَنَّ قَوْمِي لَمْ يَكُونُوا أَعِزَّةً *** لَبَعْدُ لَقَدْ لَاقَيْتُ لَا بُدَّ مَصْرَعَا وَقَرَأَ ذَلِكَ الزُّهْرِيُّ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ: (وَإِنَّ كُلًّا) بِتَشْدِيدِ "إِنَّ"، وَ(لَمَّا) بِتَنْوِينِهَا، بِمَعْنَى: شَدِيدًا وَحَقًا وَجَمِيعًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَصَحُّ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ مَخْرَجًا عَلَى كَلَامِ الْعَرَبِ الْمُسْتَفِيضِ فِيهِمْ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: "وَإِنَّ" بِتَشْدِيدِ نُونِهَا، "كُلًّا لَمَا" بِتَخْفِيفِ "مَا" {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ}، بِمَعْنَى: وَإِنَّ كُلَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قِصَصَنَا عَلَيْكَ، يَا مُحَمَّدُ، قِصَصَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، لََمَنْ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ، بِالصَّالِحِ مِنْهَا بِالْجَزِيلِ مِنَ الثَّوَابِ، وَبِالطَّالِحِ مِنْهَا بِالشَّدِيدِ مِنَ الْعُقَابِ فَتَكُونُ "مَا" بِمَعْنَى "مَنْ" وَاللَّامُ الَّتِي فِيهَا جَوَابًا ل "إِنَّ"، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ)، لَامُ قَسَمٍ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ رَبَّكَ بِمَا يَعْمَلُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ مِنْ قَوْمِكِ، يَا مُحَمَّدُ، "خَبِيرٌ"، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ عَمَلِهِمْ، بَلْ يَخْبُرُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُعْلَمُهُ وَيُحِيطُ بِهِ، حَتَّى يُجَازِيَهُمْ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ جَزَاءَهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاسْتَقِمْ أَنْتَ، يَا مُحَمَّدُ، عَلَى أَمْرِ رَبِّكَ، وَالدِّينِ الَّذِي ابْتَعَثَكَ بِهِ، وَالدُّعَاءِ إِلَيْهِ، كَمَا أَمَرَكَ رَبُّكَ {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ}، يَقُولُ: وَمَنْ رَجَعَ مَعَكَ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَالْعَمَلِ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ مِنْ بَعْدِ كُفْرِهِ (وَلَا تَطْغَوْا)، يَقُولُ: وَلَا تَعْدُوا أَمْرَهُ إِلَى مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ. {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، يَقُولُ: إِنَّ رَبَّكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، بِمَا تَعْمَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ كُلِّهَا، طَاعَتِهَا وَمَعْصِيَتِهَا "بَصِيرٌ"، ذُو عِلْمٍ بِهَا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَهُوَ لِجَمِيعِهَا مُبْصِرٌ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ، أَيُّهَا النَّاسُ، أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْكُمْ رَبُّكُمْ وَأَنْتُمْ عَامِلُونَ بِخِلَافِ أَمْرِهِ، فَإِنَّهُ ذُو عِلْمٍ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَهُوَ لَكُمْ بِالْمِرْصَادِ. وَكَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}، مَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ سُفْيَانَ فِي قَوْلِهِ: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}، قَالَ: اسْتَقِمْ عَلَى الْقُرْآنِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: (وَلَا تَطْغَوْا)، قَالَ: الطُّغْيَانُ: خِلَافُ اللَّهِ، وَرُكُوبُ مَعْصِيَتِهِ. ذَلِكَ "الطُّغْيَانُ".
|